عقلٌ مُدمر

    كُنتُ أجلسُ خلفَ مكتبي في عيادتي الخاصة عندما دُق الباب وأسمحُ بصوتي للطارق بالدخول، لتدخل (نُهى) موظفة الاستقبال الخاصة بالعيادة ومساعدتي مستاذنة ومُعلِمة إيايَ أن المريضَ الجديد قد وصل، ثم أفسحتْ المجال للمريض ورفيقه بالدخول، ثم خرجتْ بصمت.


  انتظرتُ مَن يبدأ بالكلام، لأن كلاهما جلس أمامي فلَم أعلم أيهما المريض، لكن طال الصمت كثيرًا، مُشعرًا إياي بالريبة، مُجبرًا إياي على بدء الحديث قائلًا كاسرًا ذاك الهدوء بينما أنظر بتركيز في الملف الخاص بالمريض:

- أيكم (باسم)؟


   لتأتيني "عفوًا؟" مستنكرة ومتعجبة مِن يميني لأرفع أنظاري إليه بتعجبٍ مِن الاستنكار الوضح في سؤاله، موجهًا أنظاري بعدها بلحظات للمقعد الآخر مستعدًا لأسأل الآخر عن هويته، لكنه كان فارغًا ولَم أرَ عليه أحد، رمشتُ عدة مرات وعيناي مثبتة على نفس المقعد، بينما أصابتني قُشعريرة جعلتني أشعر بالبرودة للحظات؛ من الذي رأيته توًا؟ حاولتُ تجاهُل الأمر وعُدت بأنظاري إلى الجالس معتذرًا عمَّ فعلته بتشكك، ثم غيرتُ مجرى الحديث سريعًا:

- حدثني عن نفسك.


أخذَ انفاسًا مترددة ثم زَفرَها وقال بعدها:

- حسنا، اسمي (باسم عماد)، خمسة وعشرون عامًا، تخرجتُ مُنذ عام تقريبًا.


بينما كان يتحدث، كنتُ أنظرُ للأوراق باهتمام أُراجع ما يقول، وفي يدي الأخرى أُمسك بقلمي الخاص، إلا أنني رأيتُ بطرف عيني مِن خلف الأوراق خيال شخص يقترب ثم جلس على المقعد الآخر، بل وأسند رأسه على ذراعه فوق المكتب بارتياح، مُجبرًا إياي على رفع أنظاري إليه لأرى نظراته المبتسمة لي، ثم بدأ يغمز لي كالأبله، أعدتُ النظر إلى (باسم) الذي يتحدث ويوجه أنظاره إلى المقعد الذي يجلس عليه ذاك الأبله، لكن يبدو أنه لَم يلحظه، أو لا يراه مِن الأساس؟


   صمتَ (باسم) فجأة واتسعتْ عيناه ثم ارتسم على وجهه الرعب، وارتسم الرعب على وجه مَن على المقعد الآخر مع تغييره لجِلسته، ثم بدأتُ أشعرُ باهتزازات زلزال قوية جدًا، ولَم أكد أفعل أي شيء حتى وقعت الأرض مِن نحتنا، والسقف من فوقنا ليُسقِطنا جميعًا تحت الأنقاض، لكنني استيقظتُ بفزع قبل أن يقع المبنى بأكمله فوقنا؛ هذا كان حلمًا.


   لَم أعُد أنام بارتياح منذ تكرار ذاك الحلم المرعب، إنني أراه يوميًا تقريبًا بل صِرتُ أشعر به كأنه يحدث واقعيًا حولي؛ الأرض تهتز بشدة كأني نائمٌ فوق هاتفي الذي يهتز لمنبه الصباح، الاهتزاز أقوى مِن مجرد منبه لهاتفي في الحقيقة، لكنني كنتُ أتأكد أنني لَم أنم فوق الهاتف لفترة، الحلم يتغير أحيانًا وأفقد أشخاصًا آخرين وصِرتُ أبكي على مَن أفقدهم في هذه الأحلام مع تكرار هذه الأحلام، وأنا لا أعرفهم، لكنني أراهم يموتون أمامي في كل مرة، ولا يقلّون فردًا! ثُم أستيقظ لأتأكد أن أسرتي بخير، أن أمي لاتزال موجودة وأنها تأخذني في عناقها كلما رأت رجفات جسدي كل صباح، وأنَّ تِلك الهزات ليسَتْ سوى حُلمٍ آخر جديد، أو نفس الحلم لمرة زائدة.


   نسيتُ أنْ أُعرِف نفسي أنا الطبيب: (فاروق راجي)، مجردُ طبيب نفسيٍ عادي، ذو أوقات عملٍ عادية تقليدية، مغترٍ بنفسه بعض الشيء، أو يمكننا تسميتها بواثق بنفسه جدًا، لدرجةٍ قد تُقلقني شخصيًا.


   وصلتُ لعيادتي الخاصة وبدأتُ أُراجعُ أسماء المرضى الزائرين لليوم من الملف الذي تَترُكه لي (نُهى) كل صباح، استوقفني اسم:(باسم عماد) الذي على أول القائمة؛ بدأتْ تلك الأحلام تزورني منذ جلسته الأولى الأسبوع الماضي، إنه مصابٌ بكرب ما بعدَ صَدمةِ؛ بسبب فُقدان أسرته بأكملها في الزلزال الأخير الذي ضرب البلاد، إنه المريض الأول اليوم.


   أخذتُ أرمشُ لعدة مرات، وأنخزُ وجنتي برقة كل عدة ثوانٍ، بل إنني أعدتّ على نفسي اسمي والوقت الحالي: التاسعة وخمسٌ وأربعون دقيقة ومكاني، حتى تأكدت؛ هذا ليس حلمًا، عليّ التركيز في العمل الآن، إلى أن دُقَّ الباب مرة، فهتفتُ ب"تفضل" عالية بينما أُغلقُ ملفَ أسماء المرضى وأضعه بعيدًا عني في لحظات دخول (نُهى)، ثُم دخول (باسم) المريض ورفيقه الصامت كما المرة الماضية، أشعرُ أنني رأيتُ رفيقه ذاك مِن قبل، بالإضافة إلى ملامحه الهادئة عكس طبيعة القلق الذي يشوب ملامح المرضى ورُفقائهم، كما أن ملامحه تلك تذكرني بما فعله في الحلم، رغم أنه لَم يحاول حتى الاحتكاك بي في الجلسة الماضية، عكس الحلم، ما إنْ وطأتْ قدم رفيق (باسم) أرض الغرفة وتقدم (باسم) من المقعد أمامي حتى استأذنت (نُهى) عائدة أدراجها لخارج الغرفة وإغلاقها الباب خلفها، ثُم جلسَ (باسم) أمامي، ورفيقه جلس بعيدًا عنا قليلًا، ساد الصمت لبعض الوقت، توقعتُ منه تردد (باسم) وكدتُ أتكلم لأُلطف الجو، لولا أنني شعرتُ باهتزاز قوي جعلني أتمسّك بذراعيّ مقعدي بقوة وخوفي الشديد منه، موقنًا أن الغرفة بأسرها ستسقط بنا إلى جوف الأرض في الحال، كما لو أن هذا الحلم يتحقق.


   رفعتُ أنظاري المرتعبة إلى (باسم) الذي علَتْ أصوات أنفاسه كأنه يتنفس بصعوبة بالغة، ثم انحنى وانكمش واضعًا كِلا كفيه على أُذنيه، مغلقًا عينيه بقوة، يُهيأ إليّ أنني رأيت جسده بأكمله يرتجف، نطقَ رفيقه كأنه لاحظ نظراتي على (باسم):

- أنتَ ترى أوهام (باسم) الخاصة: لحظة سقوط المنزل فوق رأسه.


حركتُ أنظاري بعدها لرفيقيه ذاك عندما سمعتُ صوته المألوف، إنه مثلي بالضبط يتمسك بمقعده بشدة، يغلق عينيه بقوة، و(باسم) بدأ ينهال بالاعتذارات، إلى أن هدأتْ اعتذارات (باسم)، بل وتوقف الاهتزاز تمامًا، لأشعر بأنفاسي أنا الخاصة متسارعة، عُدتُ بنظراتي سريعًا إلى (باسم)، لقد فقدَ وعيه، وتوقفَ الاهتزاز معه، ألقيتُ نظرة على رفيق (باسم)، الذي فقدَ وعيه هو الآخر، استجمعتُ باقي قوتي لأمُد يدي؛ أريد أن أرن زر الجرس الخارجيّ لإحضار (نُهى) بينما بدأتُ أسعُل بقوة، ثم سمعتُ صوت باب الغرفة يُفتح، ثم تحول السُعال لتقيئ، عندما ظهر شبح (نُهى) أمام أنظاري الغائمة، ثم لَم أشعر بجسدي بعد هذا.


   فتحتُ عيناي بوهن، حلمتُ بنفس حلم الزلزال مرة أخرى بعد هذه الجلسة، لَم أعُد أستطيع التفرقة بين الحلم والواقع، لكنني إعدتُ الأمر قليلًا ولم أعُد استيقظ مفزوعًا، الآن أشعرُ بالعالم يتأرجح حولي، جاعلًا إياي أصبُ جام تركيزي على مروحة السقف لأتأكد أنها لا تتأرجح وأن العالم لا يزال بخير، تَفرّستُ المكان مُطمئنًا نفسي أنني داخل غرفة عياتي بعد أن تعرفتُ على حوائطها، جيدٌ أنَ (نُهى) لَم تحاول إرسالي لأيٍ مِن منزلي أو المستشفى، بحثتُ عن أي شخصٍ فيها لكنها فارغة، هادئة من صوت أنفاس أي أحد، بدأتُ أرفع جسدي لتقع عيني على أحد المقاعد أمام مكتبي وأرى أحدهم يجلس عليه، إنه طويل القامة، رفع أنظاره لي، هل هذا رفيق (باسم)؟ ثم لِم ملامحه حزينة جدًا؟ هل حدث شيء ل(باسم)؟ قام مِن مكانه وتوجهَ لباب الغرفة مع اللحظة التي وصلَ لمسامعي فيها صوته يُفتح وصوت خطوات (نُهى) التي أعرفها، حركتْ (نُهى) رأسها نحوي وتقابلتْ نظراتنا لتنبس براحة:

- كيف حالك؟


أقبلتْ إليّ بكوب ماء كان جاهزًا على المكتب، ولَم أعد أرى ذاك الشخص الآن، سَلّمَتْ لي كوب الماء وشربتُه ببطئ بينما أكملتْ هي:

- اعتذرتُ عن جلسات العلاج لليوم، يمكنك العودة للمنزل.


سألتُ مُذكّرًا إياها ب(باسم):

- ماذا عن المريض؟


- بتذكُر: استيقظَ مُنذ فترة وعاد لمنزله معتذرًا عمَّ جرى.


- بتعجُب: منذ متى وأنا نائم؟


- : منذ أربع ساعات.


- بذهول: هل تركتِ أي أحد هنا في الغرفة؟


- : لا.


- : ولَم تريّ أي أحدٍ يخرج الآن وأنتِ تدخلين؟


- بتعجب: لا، بل إنني أجلس في الخارج ولا أتحرك إلا للاطمئنان عليك.


- تنهدتُ: اتصلي بالمرضى؛ يجب أُقابل مرضيًا أو اثنين على الأقل اليوم.


- رفعت كتفيها بلا مُبالاة: كما تشاء.


   ثم أخذتْ خطواتها للخارج، وأنا قمتُ مِن مكاني للاستعداد لمقابلة باقي المرضى، مُزفرًا أنفاسي بإرهاق، طاردًا عدة أفكارٍ مِن رأسي بشأن رفيق (باسم) الذي رأيته الآن، أظنُ أنني تخيلته فقط بسبب إرهاقي.


   في اليوم التالي، أذكرُ أنني استيقظتُ متأخرًا على غيرِ العادة؛ فقد زارني (باسم) بنفسه في الحلم مُستنجدًا بي كأن جلساتنا لا فائدة منها، رغم تهرّبه هو منها في كل مرة، جالسته وهدأتُ مِن روعه؛ المسكين كان مذعورًا للغاية وأمضى معظم الوقت يعتذر، ثم ما إن بدأ يهدأ حتى استجمع كل ما لديه ليستمع لي، واستطعتُ حينها نُصحه، وإعطائه بعض التعليمات، ثُم أستغللتُ الفرصة وسألته بشأن رفيقه وأجابني:

- (نزار) صديقي وأقنعني بالقدوم إليك لا أكثر؛ فهو داعمي مُنذ فقداني لأسرتي في الزلزال.


   أجل ذاك الزلزال مُسبب أزمته، أفقَده أحبته بل وأرهقه نفسيًا، بل أضرّ كُثر وأنا منهم؛ فقدتُ على إثره آخرين مُحببين لقلبي، واسيته قليلًا ثم أكدتُ معه على موعد جلستنا والتي كان موعدها مُحددًا منذ البداية، ثم أصبح حديثًا لطيفًا، تكلمنا بشأن عدة أمور أخرى، كأنني أُحدثُ أحد أصدقائي.


   في يوم الجلسة، أتى (باسم) وحده، وأنا لَم أهتم لعدم قدوم صديقه كثيرًا ولَم أسأله، لكن يبدو أنه ارتاح لي وهذا جيد، يبدو أن حديثي معه في الحلم الأخير يؤتي ثماره، مرّتْ الجلسة على خير بدون أضرارٍ استطاع (باسم) فيها الاستجواب معي وبهدوء، جيدٌ أنه لَم يحضر (نزار) معه اليوم.


   أوقَفَنا وقاطع أفكاري فتح باب الغرفة بقوة واقتحام (نزار) المكان يرسم على وجهه خذلان وغضب واضحين على وجهه، تفرَّسَ الغرفة ثم توقفت نظراته المتألمة على (باسم) قائلًا بلوم:

- ما الذي تفعله هُنا؟! ألم أخبرك أنَ هذا الرجل لا فائدة منه؟


اندفعتُ أنا مجيبًا إياه نيابة عن (باسم)، ومدافعًا عن نفسي:

- هذا غير صحيح، سَرى الأمر على نحوٍ جيد حتى قاطعتنا أنتَ الآن!


رمقني (نزار) للحظة ثم أعاد نظراته ل(باسم) مُكملًا متجاهلًا ما قلته للتو:

- أيُّ أمرٍ الذي سَرى على نحو جيد؟ شفاؤك ونسيانك لِما جرى؟ أما جرى بسيطٌ لتنساه بهذه السهولة؟ وتنسى معه مخطوبتي وأسرتك أمرٌ سهلٌ جدًا يمكنك تحقيقه؟


   لاحظتُ الارتعاش القوي في جسد (باسم) وهو يسمع ما يُقال له، كأنه يُلَقّن على فعلٍ سيئ، والمسكين لَم يرُد سوى بهزّات رأسه المتتالية لإنكار قول (نزار) ووجهه يَشحُب تدريجيًا، وأنا مازلتُ أُحاول التدخل بيأس لإسكاته، أكمل (نزار):

- أخبرني، كيف ستعيش حياتك؟ هل ستكون سعيدًا إن نسيتهم؟ ماذا عنهم هُم؟ هل سيسعدون إن نسيتَهم وأكملتَ حياتك؟


   بدأتُ أشعرُ بالاهتزاز مِن جديد، رفعتُ أنظاري المرتعبة إلى مروحة السقف؛ إنها تتأرجح! و(باسم) يُعانق نفسه وجسده يرتجف بأكمله بينما يردد "لا" بينَ الفِنية والأخرى، بالإضافة إلى أنفاسه العالية؛ إنها نوبة هلع أُخرى، عُدتُ أنظرُ لذاك ال(نزار) لكنني لاحظتُ لتوّي (نُهى) تقف خلفه تُشير لشيءٍ ما بيدها الأخرى، أجل، إبرة مخدر؛ أتركُ معها مخدرًا للاحتياط وها هي ذا تفي بغرضها، أمأتُ برأسي معطيًا (نُهى) الإذن بغرزها في عنق الثرثار (نزار) الذي لَم يتوقف حتى بعد أنْ أتتْ (باسم) نوبة هلعٍ جديدة، بدأ (نزار) يهدأ، لأقترب أنا من (باسم) ببطئ وأحاول تهدأته، و(باسم) لم يستمع لي، لكنه هدأ تمامًا بعد فترة، انهار باكيًا، ثم فقدَ وعيه، فحملتُه وتَركته على الأريكة بالقرب مني، هدأّتُ قلقي، مُقررًا استئناف جلساتَ باقي المرضى منتظرًا إياه يستيقظ.


   أفقتُ من نومي مفزوعًا، أرفع جسدي سريعًا عن الأريكة التي أنام عليها، أنا في العيادة، متى نِمت؟ نظرتُ حولي حتى وقعت عيني على (باسم) الجالس على أحد المقاعد عند مكتبي وما إن وقعت عينيه عليّ حتى تقدم مني وقال بقلق:

- أأنتَ بخير أيها الطبيب؟


أجبته بلسان مرهق:

- ماذا حدث؟


   لاحظتُ قلقه، كما أنه تأخر في الرد لبعض الوقت، كأنه يفكر كيف يخبرني بما حدث، إلى أن قال:

- تصرفتَ بعضَ التصرفات الغريبة ثم فقدتَ وعيك.


- بتعجب: تصرفات غريبة؟


- : قطعتَ الجلسة فجأة وبدأتَ تصرخ على أحدٍ عند باب الغرفة المغلق، وكنتَ ترمقني بنظرات قلقة بين الفِنية والأخرى ثم فقدت وعيك.


ما حدثَ لَم يكن حقيقيًا؟ مهلًا، ماذا عن الجلسة الماضية، ماذا عن باقي الجلسات؟! سألته:

- أنتَ أشعرتني بهلاوسك في الجلسة الماضية، ثم ألم تزورني في الحلم؟


أجابَ بنظرات متعجبة وحواجب معقودة:

- لَم أزُرك بأي حلم، ثُم شعورك بي؟ هل تشعر بآلام المرضى؟


   أحسستُ بسخريةٍ مِن سؤاله الأخير لكنني قُلتُ، وأعتقد أنني قلتها ببلاهة:

- كيف ذلك؟ أذكُر أنه هو كذلك تأثرَ بشدة في الجلسة الماضية وفقدَ وعيه.


- بسخرية: هو تأثرَ وفقدَ وعيه؟ مَن هو؟


   علامات الاستفهام كانت كافية على وجهي لذا لَم أُبدي عنها لفظيًا، هل (نزار) لا يراه (باسم)؟ ليس حقيقيًا؟ قام (باسم) مِن مكانه كأن حديثنا انتهى، وشكرني، واعدًا إياي على القدوم الجلسة القادمة، ثم ذهب، هل حقًا سيأتي لطبيب مريض مثلي؟


   أما أنا فتبعته وخرجت متوجهًا ل(نُهى) التي ناظرتني بقلق على حالي في البداية ثم تحول لذهولٍ وتساؤل، عندما قُلتُ مشيرًا على (باسم) الذي ذهب:

- هذا المريض، هل كان يأتي معه أحد؟


انتظرتُ للحظات، أعتقدُ أنها كانت تتأكد مِن اسمه. قالت:

- لا، كان يأتي وحده.


سألتُ بضيق في المقابل:

- كيف هذا؟! لقد كان ذاك ال(نزار) هنا يصرخ عليه ويوبخه، وأنتِ أعطيته مِن المخدر!


عقدتْ حاجبيها بتساؤل، وقالت:

- لا لَم أفعل.


   ثم اقتربتْ مِن مكتبها ودَنتْ منه تفتح أحد الأدراج؛ كانت تتأكد مِن عدد إبر المخدر الموجودة، وأكملتْ:

- العدد كامل؛ لَم أستعمل واحدة منهم منذ شهر تقريبًا، ثم أليس اسم (نزار) ذاك اسم أحد أصدقائك؟ أذكر أن هناك مَن كان يأتي لزيارتك بهذا الاسم، ولَم يكُن أحد المرضى.


عَقدتُ حاجيباي للحظة أتذكر الاسم لكنني قُلتُ دون تفكير:

- نعم، أُصيب في الزلزال.


   اتسعتْ عيناي مِما خرجَ مِن فمي قبل لحظات، رفعتُ أنظارًا منصدمة نحو (نُهى) التي ترددت بوضوحٍ تام ولَم تحاول حتى سؤالي، وأنا تجاهلتُها وخرجتُ متجهًا للمستشفى التي كان بها صديقي، لا أعرف كيف تذكرتها، لكنني وصلتُ وسألتُ عنه عند مكتب الاستقبال في المستشفى، وقد تأخرتْ الفتاة - موظفة الاستقبال - في الرد عليّ، لكنها قالت بجمود متأسف:

- لا يوجد أحد بهذا الاسم سيدي.


رَسمتُ الاستنكار على وجهي؛ وقُلتُ مُلحًا:

- أعيدي النظر في الاسماء، ربما لَم تلاحظيه!


   فتحتْ فمها وكادت ترد عليّ، لولا ظهور ممرضة ما مِن حيث لا أعلم وقالت بذهول واضح:

- ألستَ أنتَ الطبيب (فاروق راجي) صديق المتوفى (نزار فايد)؟ كيف حالك؟


أجابتْها موظفة الاستقبال بدلًا مني:

- أجل إنه يسأل عنه.


نظرتْ لي الممرضة بعدم تصديق وحاجبين معقودين، تقول: 

- كيف؟! لقد كان أنتَ مَن استقبل خبرَ وفاته واستلم جُثمانه، ثُم ألم تتعرف عليّ؟ كنت الممرضة الخاصة به!


عُقِد لساني ولَم أُجبها، أبعدتُ عيناي عن نظراتها المتسائلة، وأخذتُ خطواتي منسحبًا، أردتُ الجلوس عند مقاعد الانتظار في بهو المستشفى، لكنني فضلتُ التحرك خارج المستشفى تمامًا، أهيم في الشوارع، لأُواجه الحقيقة للمرة الثانية في مكانٍ يشجعني على تنشيط تفكيري الخامل، كأني فاقد ذاكرة تعود له ذِكراه الآن، وأُرتبُ أفكاري وأُحددُ ما عليّ فعله تاليًا، لكن كيف لي أن أنسى صديقي المقرب؟ كيف لي أن أتجاهل واتناسى وفاته؟ بل إنني لَم أتعرف عليه في أوهامي الخاصة! زفرتُ أنفاسًا محتبسة، ثم أخرجتُ هاتفي لأتصل ب(نُهى)، لكن اقترب ووقف شخصٌ أمامي فجأة مُجبرًا إياي على التوقف ورفع رأسي لطويل القامة ذاك، إنه (نزار)، قال ممازحًا بابتسامته التي افتقدُتها:

- أعتقدُ أنني أكبر لحوح قابلتَه في حياتك.


لانت ملامحي؛ لقد اشتقت له، كيف نسيته؟ قُلت أنا ساخرًا:

- نعم بالفعل لقد كنت دومًا لحوحًا، وأنا اعدتُ الأمر.


سخِرَ في المقابل: 

- حقا؟ ومَن ذاك الذي لَم يتعرف عليّ لثلاث أسابيع متتالية؟


- قُلتُ مُعاتبًا: أنت مَن لازمتَ ذاك المريض، لمَ هو بالذات؟


اقترب مني أكثر ووجهه يظهر عليه عدم التصديق يسأل:

- أأنت حقًا لا تعلم لِم أُلازمه وآتيك في وقت جلسته هو بالذات؟!


أتى صوت (نُهى) من الجهة الأخرى من هاتفي، مشتتًا إياي عن (نزار) الذي تحولت ملامحه إلى التذمر ما إن وجهتُ تركيزي إلى (نُهى)، لا اذكرُ متى اتصلتُ بها لكنني قُلت مُتجاهلًا إياه:

- لكِ إجازة لمدة اسبوعين؛ ريثما أهدأُ أنا قليلًا.


لاحظتُ شيئًا مِن ترددها في اللحظة التي رفعتُ أنظاري إلى (نزار) الذي يُظهِر الضيق لتجاهلي إياه، وتأكدَ لي شعوري عندما سمعتُ (نُهى) تسأل:

- ماذا عن المرضى ومواعيدهم؟


أبعدتُ أنظاري عن (نزار) لأفكر قليلًا وأقول:

- سأُفكرُ في الأمر، وأُعاود الاتصال بك.


وافقتْ (نُهى) بشيء من هدوئها المُعتاد، لأُنهي المكالمة، ثم عُدتُ بأنظاري ل(نزار) الذي قال ما إن سمع جملتي:

- ألم تجمع أسماء الأطباء الآخرين في ورقةٍ ما في أحد أدراج مكتبك؟ لِم لَم تخبرها بشأنها؟


قُلتُ بينما أعود أدراجي للمستشفى:

- ليس الآن.


   سأل عن السبب لكنني لَم أرد، بل سأل عِدة مرات وألحَ في سؤاله كما اعتاد، وأنا أُحاول تجاهله، لا أريد التفكير في الأمر، وصلتُ للمستشفى واقتربتُ مِن موظفة الاستقبال أسألها عن الأطباء النفسيين الموجودين في المستشفى؛ عليّ تقبُل فُقدان صديقي، رفعتْ موظفة الاستقبال رأسها لي، لِم ملامح (نزار) على وجهها؟ قالت وقد تحول صوتها كذلك لصوت (نزار):

- ماذا عن الأطباء الذين تعرفهم؟ هل لا تريد مِن أحد معارفك أن يعلم أنك تحتاج إلى العلاج النفسي؟ ألستَ أنتَ مَن قُلتَ أن لا حرج في الاحتياج للعلاج النفسي؟


   اتسعتْ عيناي رُعبًا، وعُدتُ عدة خطواتٍ خائفة للخلف، كدتُ أقع منها، ابتعدتُ هذه المرة بارتعاب ظاهرٍ على وجهي بينما أهربُ تمامًا، أعرف أنه وهمٌ آخر، وأنني أفزعتُ الفتاة، وأخفتُ من حولي، لكنني لن أعود لتلك المستشفى مجددًا. 


   وضعتُ يداي المرتعشة على أُذنيّ؛ مازلتُ أسمع صوت (نزار)، وأُحاول منعه من الوصول إلى رأسي، بينما أسير في الشارع مقررًا العودة للمنزل، عليّ إيقاف هذه الأوهام، وهذا الإلحاح، أُحاول تجاهله لكنني لا أستطيع، أنا هو ذلك المُلِح وليس (نزار)، أنا مُصرٌ على إبقاء ذكراه معي بتلك الطريقة، عليّ أن أُعالَج قبل استئناف عملي، قبل أن أُرهِق نفسي وعقلي أكثر مِن هذا، قبل أن أعزل نفسي وأعتاد على وجوده.


" لَن أُدخِلَك المنزل إلا عندما تزور طبيبًا لأطمئن عليك!"، صوت أمي كان يتردد في رأسي بينما أسير في الشارع؛ تشاجرتُ معها بشأن عدم الذهاب لأطباء، حاولتُ إقناعها أنني سأكون بخيرٍ إن ارتحتُ قليلًا في المنزل، لكن بدلًا مِن الراحة، أخبرتني أمي أنني كنتُ أفعل أشياء غريبة: كالتحدث مع الفراغ بصوت عالي، أثقُ أنها تتحدث عن حديثي مع (نزار)، الصراخ على إخوتي لسبب مجهول بالنسبة إليهم، كما أنني أحيانًا - على حد قول والدتي وإخوتي - أتناسى ما يجري حولي فجأة، كأنه لَم يجري، هذا حوَّلَ رد فعل أمي إلى إخراجي مِن المنزل وإجباري على الذهاب، بل إنني حاولتُ إقناعها أن أذهب وحدي، لكنها أصرّتْ بشدة على القدوم معي، أعرفُ أنها قلقة عليّ، إلا أن ما فعلتُه في الآونة الأخيرة أقلقها بشدة.


    ورقة أسماء الأطباء الآخرين التي كنتُ أضعها في درج مكتبي في عيادتي الخاصة في يدي، وضعتُ عند كل اسم عنوان عيادته أو المستشفى التي يعمل بها، وطريقة للتواصل.


    تأملتُ اسم العيادة المكتوب: (داوود بدر سيد)، أخصائي الصحة النفسية، زفرتُ بإرهاق بينما أتبعُ أمي للداخل.


   جلستُ مُنتظرًا موعد جلستي والتوتر يسيطر عليّ، كنتُ أشعرُ بوجود (نزار) حولي، كنتُ أسمعُ صوتًا يتردد في رأسي، كنتُ متأكدًا تمامًا أنه صوته، لَم أفهم ما يُقال لي، لكنني لَم أكُن مُتراحًا، لَم أتحمل الجلوس بين ضحكاتٍ بصوت (نزار)، حاولتُ تجاهلها كثيرًا لكنني لَم أنجح، إلى أن شتتني صوت مساعد الطبيب يقف أمامي، مُفرقعًا أصابعه أمام عيني، لأرمش مرتين قبل أن أُحرك مُقلتا عيني على يده المرفوعة ثم حركتُ عيني مجددًا مركزًا عليه مع جملته:

- إنه دورك سيدي!


   أخذتُ لحظات لأفهم ما قاله قبل أن أنبُس ب"حسنا" بينما أرفع أنظاري لأمي التي تراقبني بقلق، مدتْ يدها وربتت على ظهري، ثم ساعدتني على القيام مِن مكاني إلى داخل غرفة الطبيب.


جلستُ في المكان المُخصص لي، مُتهكم الوجه، قبل أن يقول:

- تفضل بتعريف نفسك.


كِدتُ أتكلم لولا سماعي لصوت (نزار) الغاضب في رأسي: 

- مَن هذا؟ هل سألتَ عنه أو حاولتَ التأكد مِن أي شيء بشأنه؟


حاولتُ تجاهله وبدأتُ أتكلم بقلق:

- أُدعى (فاروق راجي)، أبلغُ من العمر تسعٌ وثلاثون عامًا، وأعملُ كطبيبٍ نفسي.


   شعرتُ بمُفاجأة السامع لي، كأنه لَم يُلقي أي نظرة على أي شيء يخصني في أوراقه، وأردتُ التأكد مِن شكوكي ورفعتُ رأسي، لِمَ هذا الطبيب يشبه (نزار) بشدة؟ ثُم لِم لا ينظر إلي بمفاجأة؟ رأيتُها غاضبة، كان ينظر لي بخذلان وغضب، كتلك التي كان يرمق بها (باسم) سابقًا، كأنني خذلته، لكنها تحولت لحزن فجأة بينما سمعته:

- لِم؟


انفعلتُ بينما أُجيبه:

- كيف تسأل سؤالًا كهذا؟! ألا ترى ما أنا به؟


- بحزن: لكنني صديقك المقرب.


- : نعم بالتأكيد أنت كذلك، لكنني لا أتحملُ وجودك أكثر من هذا!


    رسم الانكسار هذه المرة، وقُمتُ أنا مِن مكاني؛ أُريد الخروج من هذه الغرفة في الحال، نظراتي أصبحتْ ضبابية بالكامل، أشعر أنني يجب ألا أكون موجودًا هنا، لا، لا أعتقد أنني موجود داخل هذه الغرفة بالمرة، آخر ما أذكره ذاك الرجل وهو يفرقع أصابعه أمام عيني، مَن هو ذاك الرجل؟ ولِم يفرقع أصابع أمام شخص لا يعرفه؟ ثُم ألم تكن أمي معي حينها؟ أين هي الآن؟ ربما أنا نائم الآن خارج غرفة الطبيب وعليّ الاستيقاظ، نعم يجب أن استيقظ.


   ما هذا أين أنا؟ هل هذا باب المنزل؟ متى أتيت ُ إلى هنا؟ هل عُدت للمنزل بهذه السرعة، أم أنني لم أذهب لأي طبيبٍ من الأساس؟ رُبما لهذا لَم أرى أمي؟ لأنها لَم تخرج قط من المنزل؟ رفعتُ أنظاري المُتعبة لزِر جرس الباب، حاولتُ رفع يدي وفعلت بطريقة ما، ما إن وصلتْ يدي إليه حتى فقدتُ السيطرة على جسدي بالكامل وشعرتُ بنفسي أسقط من هاوية مرتفعة، لكنني لَم أكُن أقف على مكان مرتفع، مِن أين وقعت؟


تمت



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرط التفكير

الكويكب الذي غير تاريخ الأرض

تذكرني دائمًا