طيّات حُلم

    تراقصَ الأزواج مع ألحان الموسيقى الهادئة المنتشرة في القاعة الكبيرة، إن نظرتَ إليهم تشعر كأنك تشاهد أحد حفلات العصر القديم؛ إنها حفلة كلاسيكية أُقيمت على شرف أحدهم لستُ أعرفه، أرقصُ مع فتاة لا أعرفها، كلُ ما أعرفه أنني في حلمٍ ما مِن أحلام أحد الطلاب الذين أُعلِّمهم لهذا العام؛ فأنا أستطيع رؤية أحلام الأخرين إن أردت، وها أنا أبحث عن صاحبة الحلم (رزان)؛ فهي ليست عادية وأحلامها ليست طبيعية، منذُ أن رأيتها وأنا أرى شيئًا مِن خجلها عندما تبعد عينها عني، لَم يكن هذا حلمها الأول بشأني، فقد استدعتني مرة في حلم منذ عدة أسابيع ولَم أتعرف عليها، حتى فهمتُ أن وجودي في حلمها ليس بيدي، ولستُ أنا من يختار وجودي في حلمها، بل هي.


   مرتْ لحظات حتى تقابلتْ عيناها الحائرة مع عيني التي كانتْ تبحث عنها، لكن تعابيرها تحولتْ إلى الضيق ما إنْ رأتني، هل هذا الغضب عليّ أنا أم على مَن أرقصُ معها؟ أخذتْ خطواتها إلى الأمام، أثقُ أنها قادمة إلينا، تركتُ يدَ مَن معي مع وصولها إلينا قبل أن تفتحَ فمها، لينتهي الحلم هُنا وأستيقظ مع شعوري بلمسات قطي يحاول إيقاظي.


   مشاهد الحلم ومشاعره ظلّتْ تتردد في رأسي طوال اليوم، كلما كانتْ تقع عيني على (رزان) أرى منها نظرات الضيق التي رأيتُها في الحُلم، وأنا أثقٌ تمامًا أنها لا تلحظني كما أنا أفعلُ الآن، وأنَّ نظرات الضيق تِلك ليسَتْ موجهةً إليّ، حسنًا الآن لاحظتُ أنها حائرة للغاية وقلقة لسبب ما، لكنني حاولتُ تشتيتَ انتباهي عنها كثيرًا حتى نهاية المحاضرة، حتى نهاية اليوم، حتى لا أيُتم بها.


   امتلأتْ رأسي بأمرها، حتى أنَ الأمر شتتني كثيرًا عن أمور عِدة، إلى أن أفقتُ على أمي التي أتتها إحدى نوبات مرضها المُزمن المرهقة ونُقلتْ إلى المستشفى، ثُم قدوم إخوتي إلى المستشفى، أمي مُصابة بالسكري وهذه النوبات مُعتادة في حالتها الصعبة، وحاولتُ وإخوتي إقناعها مرارً أن تمكث في المستشفى تحت ملاحظة الأطباء المتخصصين، لكنها رفضتْ، لذا كُنا نتناوب على الاعتناء بها مع خالتي التي باتت تعيش معنا، وأنا أعيش معها بالطبع، اعتذرتُ عن الذهاب للعمل لعدة أيام لمكوثي مع والدتي في المستشفى إلى أن يأذنَ لها طبيبها بالخروج، وبالطبع عُدتُ لحياتي الطبيعية بدون أحلام أُسحبُ إليها. ما إن تماثلتْ أمي للشفاء وسُمح لها بالخروج حتى أجبرتني على العودة للعمل مُعللة أنها ستعتمد على خالتي كما اعتادت، إلا أنني في المقابل، أجبرتُ إخوتي على القدوم والمكوث معها ليومين كاملين بدلًا مني والاجتماع كأسرة لأُريح قلق أمي الذي لَم يهدأ لفترة.


   عاودتُ الذهاب للعمل مرة أخرى، في الصباح، في طريقي لمكتبي لاحظتُ تلك الفتاة التي تُلازم (رزان) أينما ذهبت، لكنها لَم تكن مع (رزان) هذه المرة، كانت مع فتًى، والذي ما إن وقعت نظراته عليّ حتى نبس، موجهًا كلامه لِمَن معه:

- عاد (زكي) يتواصل معي مرة أخرى بعد انقطاع، أتريدين مني إخباره أنك أو صديقتك تبحثون عنه؟


أجابته فورًا:

- لا تفعل، منعتني (رزان) مِن ذِكر أمره حتى، وأعتقد أنها فقدت الأمل في الأمر، أعتقد أنها لا تبحث عنه.


   أكملا الطريق مبتعدين عني، يُكملان حديثهما، بينما أنا وقفتُ في مكاني أتسائل: هل أُدرِّسُ فتى يشبهني ويحمل نفسَ اسمي؟ أذكر أنَ هناك طالبًا شبيها لي، لكنه لا يحضر لذا لَم ألحظه، والآن هذا الآخر يذكرني! أيعني هذا أن (رزان) تحاول الوصول إليه والتواصل معه هو؟! وأنا الذي ظننتُ أنها توقفتْ عن التفكير بأمري لأنني لَم أظهر لفترة؟ يالطموحاتي الغبية.


   أثناء إلقائي للمحاضرة، بحثتُ عن (رزان) التي لَم تحضر اليوم، بحثتُ عن الطالب (زكي) الذي يبدو أنه لَم يحضر كعادته اليوم، ثم لَفتَ انتباهي صديق (زكي) وصديقة (رزان) الذي يجلس كلًا منهما في مكان مختلف، وبعد المحاضرة طلبتُ مقابلة كلًا مِن صديقة (رزان) وصديق (زكي) في مكتبي عند نهاية اليوم الدراسيّ وانصاعا لي بقلق واضح.


   في غضون تلك الفترة، قررتُ مُجالسة نفسي وفهم ما إن كُنتُ أريدُ رؤيتها، أم أنني فقط لا أستطيع فِهم ظاهرة الأحلام تلك، لكن لولا ظاهرة الأحلام تِلك ما كُنا لنلتقي أبدًا، أليس كذلك؟ لكن نفس تلك الظاهرة قابلنا بها مئات الناس، لِم هي بالذات؟ لِم أنا بالذات؟ لِم كُلما حاولتُ إخراجها مِن رأسي تشبثتْ بي ذِكراها ولا تريد تَركي؟! لِم حتى بعد أن عُدتُ لعيش حياتي الطبيعية، عادت ذِكراها عند أولى الفُرص؟! بالطبع مُكوثي في مكتبي الذي لا يشاركني هدوئه أي مِن الأساتذة الآخرين الذين لَم يتواجدوا به اليوم، أشعرني بنعاسٍ شديد جعلني أعود للوراء وأُريح رأسي على ظهرَ المقعد الخاص بي، وأفقد شعوري بواقعي وأقع في عالم أحلامي الخاص.


   كان حلمًا غريبًا، لَم أعرف للمرة الأولى ما إنْ كانَ هذا الحلم مِن عقلي الباطني الخاص أم أنه حلم أحدهم، لقد كانَ حفلًا راقصًا، كهذا الحفل الذي حلمتُ به منذ أيام، لكن هذه المرة لَم يكن على شرفِ (رزان) بل كان على شرفي أنا، كُنتُ أقف في الطابق الثاني مِن القصر الذي أُقيم فيه الحفل أراقبُ الأزواج الراقصين معًا، إلى أنْ لاحظتُ وجهًا أعلمه، مهلا، وجهان، أخذتُ خطواتي بتعجب نحو الدَرج، ثم أخذت خطواتي أنزله ببطئ عندما تاهت عيناي عنهما، ثُم رأيتهما مُجددًا، إنهما (رزان) والطالب شبيهي (زكي) أحد الأزواج، لكن لِمَ (زكي)؟ ثُم لِمَ هو يشبهني إلى حدٍ كبير كأنه أنا في مُراهقتي؟ ولِم عندما وصلتُ إليهما وتلاقتْ أعيننا كان يناظرني بتحديٍ وسخرية، هذا يزعجني، ثُم لِم مازالتْ (رزان) متمسكة بذراعه رغم أنني قاطعتُهم، لِم لَم يتوقف باقي المدعويين عن الرقص كما توقفوا في حلم (رزان)؟ لِم سَحبَ ذاك الشبيه (رزان) لإكمال الرقص كأنني لَم أُقاطعهم؟!


   ما إنْ ابتعدا وتاهتْ عيني عنهما مرة أخرى حتى تحولتْ وجوه كل الراقصين إلى وجهيهما؛ الكثير مِن (رزان) تُراقص شبيهي، وشبيهي يراقبني بتحدي ولا ينظر إليها حتى! ومع كُلِ لحظةٍ تُقابل عيني أحدًا منهم أشعر بالغضب أكتر فأكثر، حتى تلاشتْ الوجوه تمامًا ليصبحوا راقصين بلا وجوه، أو ذوي وجوه مشوهة نسبيًا لا يمكنني تحديد ملامح أحدٍ منهم، ولا حتى وجه (رزان)، كأنها تركتني وسط أفكاري تائهًا وتركتْ الحفل برمته مع شبيهي، وأنا أراقبُ الراقصين وأنا الوحيد بينهم، لكنني لا أريد هذا، لا أريد مِنها تركي لأنها أخطأت بيني وبين شبيهي، أنا هو الموجود في أحلامها وليس هو! أنا مَن رأته طوال تلك الفترة وليس هو! ومكانها بين ذراعيّ أنا وليس هو! إنه مجرد زميل كسول لها لَم يحاول التعرف على جامعته حتى هذه اللحظة، ولا يعرف أنَ لديه زميلة تُدعى (رزان) حتى.


   فتحتُ عيني مع شعوري بألمٍ قوي في عُنقي وصداع في رأسي بسبب طريقة نومي الخاطئة، أمسكتُ بعُنقي بينما أعتدلُ بجلستي بينما أتثائب، ألقيتُ نظرةً سريعةً على ساعة الحائط، ذاك الحُلم لَم يأخذ مِن الوقت سوى خمس دقائق فقط، لذا عليّ أن أقوم مِن مكاني لأغسل وجهي وأُحاول تخفيف ألم الصُداع، وأعاود ترتيب أفكاري، ريثما ينتهي الأولاد مِن محاضراتهم.


   انتهى الوقت أخيرًا، ولَم يتأخرا في القدوم لمكتبي كما طلبت، الفتاة تُدعى (سهر) والفتى يُدعى (سليم)، سألتهم بشأن (رزان) و(زكي) بحزم كأستاذ؛ كي يُساء فهمي في أنني أقلق على الطلبة الخاصة بي وأحصل على الجواب الذي أبحثُ عنه، وهو أنَ (رزان) تُعاني مِن مشاكل تمنعها مِن الحضور، و(زكي) بطبيعته لا يأتي لأن عمله الخاص يمنعه تمامًا.


   رُغم أنني بدأتُ الكلام بشكلٍ جيد إلا أنني لَم أهتم بشأن (زكي) وسألتُ مباشرة عمَّ تُعانيه (رزان)، ولاحظتُ ترددًا على وجه (سهر) قبل أن تقول:

- لستُ أعرف تمامًا، لَم، تخبرني.


   أعتقدُ أنها تُعاني مِن الأرقِ بسبب أحلامها الغير مفهومة بشأني! بالتأكيد لَم أحاول التدخل أكثرَ مِن هذا؛ فلا أريدُ رؤية نظراتٍ متوجسة مِن أي مِن (سهر) أو (سليم)، وأذنتُ لهم بالعودة، طالبًا منهم عدم إشعار أصدقائهم بأنني أسألُ عنهم، ثم في صباح اليوم التالي، ولأن محاضرتي الخاصة هي الأولى في الصباح الباكر، طلبتُ مِن (سهر) بعد المحاضرة أن تتصل بـ(رزان) وتخبرها أنني أستدعيها وأن تستعجلها بالقدوم، وأنا لا أبذلُ أيَ مجهودٍ يُذكر لمنع ابتسامة تحمُسي مِن الظهور، ففعلتْ.


وقفتُ على بُعد خطواتٍ مِن (سهر) التي تُهلل بقدوم صديقتها، وقد افسحتُ لهن المجال للحظات بين سعادة (سهر) وتعجب (رزان) قبل أن تنطق (سهر) بجمودٍ مفاجئ:

- (زكي مرزوق عبد الرحيم)


   انتصبتُ بدون وعيٍ مني مع اللحظة التي سمعتُ بها اسمي لتبتعد (سهر) على الفور، وأتنحنحُ أنا وأشتتُ انتباه (رزان) التي رفعتْ رأسها إليّ، فسألتُ ببلاهة:

- هل أعرفك؟


هُنا تلاقتْ عينانا، نعم، هي لَم تنظر إليّ إلا الآن، صمتتْ وأنا أعطيتها الوقت لعلها تتذكر، لكنها وسعتْ ابتسامتها أكثر وقالتْ:

- لستُ أعرفك، ما اسمك؟


- أجبتُ بتقطع مقصود: (زكي)، (زكي مرزوق).


سقط جُزء مِن ابتسامتها، سألتْ:

- (عبد الرحيم)؟


هي تعرف اسم جدي كذلك! قُلت بصدق:

- إنه اسم جدي.


- : إذن فأنتَ الأستاذ الذي يطلب رؤيتي؟


أمأتُ بصمت لتسأل عن سبب استدعائي فقلت:

- رأيتُك عدة مرات، لَم أحاول التحدث إليك أبدًا، لكنك لفتِ انتباهي، وقد ساقني فضولي إلى هنا.


- : حقًا؟ وكيف توقعتَ شخصيتي؟


- : أعتقدُ أنكِ شخص هادئ ولطيف.


- : هذا لطفٌ مِنك أنت.


حولتُ مجرى الحديث فجأة بمزاح واضح:

- إذن أيتها الآنسة ما عذرك لعدم حضورك المحاضرات الماضية؟


   كتمتْ (رزان) ضحكتها، بدأتُ أتوقعُ شخصيتها الآن، (رزان) ليست هادئة، لكنني لا أنكر أنها لطيفة، بل أعتقد أنها متمردة، لكن حالمة كباقي الفتيات، مترددة وتهرب مِن مشاكلها كمشاكل الحلم الذي لَم تواجهه، بالطبع لَم تُزِل عينها عني وهذا رفع ثقتي بنفسي، مِن الجيد أنني قررتُ أخذ هذه الخطوة قبل أن أندم.


   بالتأكيد، لَن أُخبرها بشأن الأحلام التي سحبتني إليها عنوة، لن أُشعِرها أنني كُنتُ أبحثُ عنها حتى في أحلامي، أو أنني كنتُ سأُجَن كأنني سأفقد شخصًا أعرفه حق المعرفه، سيبقى أمر الأحلام التي نرى وجوه بعضنا بين طياتها سرًا بيننا لا يفتحه أحدٌ منا إلى إشعارٍ آخر، أعرف أنا بأمره، تعرف هي بأمره، لكن كلانا أجبن مِن مواجهته، على الأقل الآن.


النهاية



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرط التفكير

الكويكب الذي غير تاريخ الأرض

تذكرني دائمًا