أحلامٌ متمايلة
تراقص الأزواج مع ألحان الموسيقى الهادئة المنتشرة في القاعة الكبيرة، إن نظرتَ إليهم تشعر كأنك تشاهد أحد حفلات العصر القديم؛ إنها حفلة كلاسيكية أُقيمت على شرف صاحبة هذا الحلم:(رزان)، لكنها تحلم ولَم يكن حقيقيًا، الغريب في هذا الحلم عن باقي أحلامها وجود شخص بين الراقصين مع زوجته، كلما وقعتْ عينها عليه شعرت بالضيق، حتى أنها تقدمت منه بغضب لتوقفه عن الرقص مع مَن معه، لكنها استقيظت والغضب يسيطر عليها.
(رزان) لَيسَتْ مجرد فتاة حالمة عادية، إنها مُحبة للأحلام، قلّما تنسى حُلمًا، قلّما ترى شخصًا غريبًا في حُلمها، هكذا أُقنعتْ في صغرها: أن ذاكرتها قوية، تقابل الشخص على الأقل مرتان في حياتها: مرة في الواقع حتى وإن لَم يتحدثوا، ومرة في نفس الليلة في الحلم، وهُنا يَكمُن الخيال، فهي تراه لكن لا تتحدث أو تؤثر عليه في الحلم، ويَسري الحلم وفقًا لخيال عقلها الباطن.
وها هي ترى هذا الشخص للمرة الثالثة في حُلمها، عرفتْ منذ الحلم الأول أنها رأته في وقت ما من اليوم حينها؛ فهي كانت تذهب للجامعة وتبحث عن عمل، بالإضافة إلى حضورها عدة دورات تدريبية في الآونة الأخيرة، لذا فهي لَم تعرف متى رأته ولَم تهتم.
ثم ظهرَ بعدها باسبوع في الحُلم الثاني عندما قلّ انشغالها وأصبحتْ تخرج قليلًا.
والآن إنها فقط تذهب عندما يأتي إليها خبرٌ بأهمية الذهاب للجامعة، إلا أنها رأته في حلمها مجددًا وأصبح يثير شكوكها، ثم غيرتها مِن تلك التي كان يرقص معها رغم أنها لَم تحاول حتى معرفة مَن تكون، لَم يهمها مَن تكون، كل ما أرادتْ معرفته هو: لِم يُطاردها في أحلامها؟
أنهتْ كتابة الحُلم، أصبحتْ عادة تُفرغ بها تفاصيل الحلم كي لا تنساها إن احتاجتها فيما بَعد، كما أنها أحيانًا ترسُم وجه مَن تراه في حلمها، وبما أنها ثالث مرة تحلم به، فالرسمة جاهزة، هي فقط راجعتها وعدَلتْ بعض التفاصيل ثم نظرتْ لها عن بُعد بشيء مِن الحيرة مع ابتسامة بلهاء رسمتها على وجهها، أعادت الأوراق لمكانها وأخذت الرسمة معها وقامت للاستعداد لرحلتها للبحث عن ذاك الطيف، كما تُلقب زوار أحلامها.
جلست بجوار صديقتها (سهر) تلتقط أنفاسها اليائسة، مشتتة انتباه مَن معها، استنتجت (سهر) أنه حلم فسألت مباشرة:
- معكِ رسمة؟
بعد أن لاحظت تحديق (رزان) في الداخلين لقاعة المحاضرات ونظراتها السريعة لمَن حولها، وكانتْ (سهر) على حق؛ أخرجت (رزان) الورقة التي رسمتْ بها وجه الزائر منتظرة منها الرد على سؤال:" أتعرفينه؟" الذي ظهرَ بتَرَجٍ على وجهها، ظهرَ معه الذهول على وجه (سهر) بينما تحدق في الرسمة بينما تقول:
- إنه (زكي).
عدم الفهم وضحَ بشدة على وجه (رزان) وهي تسمع الاسم؛ من هذا؟! فهمت (سهر) فورًا فقالت:
- كان يجلس أمامنا في المرات الماضية، وملامحه ليست مميزة جدًا، لكن اسمه كاسم الأستاذ فلَم أنساه.
(رزان):
- إذن، هل أتى؟
رفعت (سهر) رأسها ونادتْ أحد الجالسين أمامها تسأله عن المدعو (زكي)، لكنه نفى قدومه، بل سمع أنه اعتذر عن حضور المحاضرة، فسحبتْ (رزان) الورقة من يد (سهر) على إثر هذه الجملة بينما طلبت منه (سهر) إرسال رسالة له بشأن سؤال أحد زملائه عنه، ثم عادت(لرزان) قائلة:
- هل أطلبُ منه رقم (زكي)؟
رفضتْ (رزان)، مُعللة أنها لن تجد ما يمكنها قوله، وعدم عثورهم عليه فرصة لها للتفكير، ولَم تحاول البحث عنه أكثر لبعضة أيام، كما أنه لَم يظهر لها فبتدأت تتناسى الأمر، لكن ذكراه ظلتْ في رأسها لَم تداعها وشأنها أبدًا.
أتى إليها اتصالٌ مِن مجهول، أجابت بعد أن قررتْ تسجيل المكالمة فأتاها في الحال صوت المُتصل قائلًا:
- سمعتُ أنك تبحثين عني فطلبتُ رقمك من أحد أصدقائك، أنتِ (رزان) أليس كذلك؟
ترددت للحظات لكنها قالت:
- نعم أنا (رزان)، لكن مَن المتحدث؟
- : أنا (زكي)
- باندفاع وتردد: لِم اتصلتَ بي؟! كان يمكنك مقابلتي في الجامعة.
- : لا يمكنني الذهاب للجامعة في الوقت الحالي لذا.
- قاطعته : لا مشكلة، عندما تذهب يمكنك إعلامي، إنه ليس طلبًا مستعجلًا.
- : ماذا؟ لكنني سمعتُ أنك قمتِ برسمي وأردتِ عرضها عليّ، وقلتِ شيئًا عن.
- قاطعته مجددًا: ماذا؟ عرض رسمي؟ لكني لَم أرسمك.
- : إذن ماذا عن الصورة التي وصلتني؟
- : ربما أخطأت؛ فأنا لستُ (رزان) الوحيدة في القسم.
- : لكنني لن أخطئ في رقم الهاتف، أين تسكنين؟
- بحنق : سيد (زكي)، عندما يتسنى لك العودة للجامعة يمكنك إعلامي أو مقابلتي، إنني أحضر المحاضرات المهمة فقط، إلى اللقاء.
قطعتْ الخط دون انتظار ردٍ منه، لقد نستْ تمامًا هذا النوع من البشر، نستْ عهدها على نفسها بشأن عدم مقابلة زوارها حتى ولو زاروها مئات المرات، نستْ أنها تستطيع رؤية الموتى، وأنها لا يمكنها البوح لمَن رأته أو أحد معارفه بأنها رأته، نستْ أمر رسمها لذاك الزائر.
رفعتْ جسدها وأمسكت بهاتفها متصلة (بسهر) التي ما إن ردت سألتها بتهديد:
- هل صورتِ رسمتي؟
أتاه رد (سهر) المتعجب:
- ما هذا الاستجواب؟
أكملت متجاهلة السؤال:
- وأرسلتها له؟
- : من هو؟
- : بل واستعجلته واعطيته رقم هاتفي.
- : مَن؟!
- : (زكي)!
- : لَم أفعل، لَم اصورها، ولم اعطيه شيئًا يخصك، لَم أحاول التواصل معه حتى.
- : ولَم ترسليهم إلى أحد معارفه؟
- : لا.
- بعد تفكير: انتظري لا تقطعي الخط لحظة.
وافقت (سهر) بينما فتحت (رزان) سجل التسجيلات لتُسمع (سهر) المكالمة، أو تتأكد هي، لكنها لَم تعثر على أي تسجيلات في الآونة الأخيرة لأي مكالمة، كأنها لَم تفتح برنامج مسجل الصوت أبدًا، فبدأت بالبحث في باقي البرامج، إلى أن أتاها صوت (سهر) البعيد مشتتًا إياها لتعيد الهاتف إلى أذنها تطلب منها إعادة ما قالت فأعادت:
- ماذا جرى؟
أجابتْ بخوف:
- هناك شيء خاطئ، سجلتُ المكالمة ولستُ أعثر عليها، فتحتُ سجل المكالمات ولم أعثر على مكالمة من مجهول، أو باسم (زكي) فائتة أو تم الرد عليها.
سمعتْ تنهد (سهر) من الجهة الأخرى:
- حسنا إهدئي، إذهبِ وأغسلي وجهك جيدًا وأفطري وأعيدي التفكير في الأمر، وسأتصل بك عندما أُنهي فطوري كذلك.
- بعدم استيعاب: فطور؟
- : نعم، إنها التاسعة صباحًا
رفعتْ (رزان) رأسها إلى ساعة الحائط للحظة ثم أخفضتها، لكنها عقدت حاجبيها بتعجب ورفعتها مجددًا بينما تقول:
- أيُ تاسعة تلك، إنها السابعة مساء.
- : يبدو أنك نمتِ كثيرًا، يجب أن أذهب الآن، إلى اللقاء.
قطعت (سهر) الخط تاركة (رزان) تتخبط بين أوهامٍ عِدة، مذهولة لِم جرى، وغير مصدقة له، حركتْ ناظريها لباب غرفتها، فُتح وظهرت من خلفه والدتها التي قالت بقلق:
- أكنتِ تتشاجرين مع (سهر)؟
نفت (رزان) لتكمل والدتها:
- : حسنا، اخرجي هيا الفطور جاهز.
(سهر) لَم تكُن تتهرب؟ والمكالمة لم تحدث؟ هل هذا يعني أن (زكي) ذاك غير موجود؟! جحظت عيناها رعبًا عندما أحستْ أنها وقعتْ بحُب شخصٍ ميت، ألقت بهاتفها على السرير بينما رفعت كف يدها تغطي فمها، تسرع إلى الحمام، قبل أن تتقيأ.
بدأتْ رحلة البحث عن عمل من جديد؛ ربما تعثر على ما يُلهيها عن عالم أحلامها الأسود،كما قررت تلقيبه، أخرجتْ من رأسها أمر (زكي)، فهمت في نفس اليوم أن تلك المكالمة كانت مجرد حلم واتصلتْ مجددًا (بسهر) معتذرة منها، وها هي الآن لا تذهب للجامعة كي لا ترى مَن يذكرها (بزكي)، واعتبرته روح شخص مات، أو شبيه له لكنه ليس هو ولن تحاول الاقتراب منه.
لكنها لَم تَكد تتأقلم على حياتها حتى أتاها اتصالٌ مبكر مِن (سهر) تستعجلها في الذهاب للجامعة لأن أحد الأساتذة استدعاها فذهبت.
ما إن وصلت لبوابة جامعتها حتى استقبلها (سهر) مهللة بقدومها، كأنها نست أن صديقتها قادمة بسبب استدعاء، سألتها بتعجب عن الأستاذ الذي يريدها، رأت على وجه (سهر) شبح ابتسامة قبل ما أن تنطق اسمه بجمود:(زكي مرزوق عبد الرحيم).
هنا عقدت (رزان) حاجبيها، بينما انسحبتْ (سهر) فورًا قبل أن تتلقى أي سؤال من (رزان)، و(رزان) ما إن ابتعدت (سهر) حتى سمعت تنحنح أحدهم خلفها يطلب التحدث إليها، فاستدارت له ورفعت رأسها مبتسمة دون النظر في عينيه، سامحة له بالكلام. قال:
- هل أعرفك؟
هذا السؤال أجبرها وبلا وعي منها تحريك عينها لعينه، تجمدت بعض الوقت؛ فهي تعرفه، لكنها اكتفتْ بتوسيع ابتسامتها أكثر بينما قالت:
- لستُ أعرفك، ما اسمك؟
- : (زكي)، (زكي مرزوق).
سقط جزء من ابتسامتها، سألت:
- (عبد الرحيم)؟
- : إنه اسم جدي.
- : إن فأنتَ الأستاذ الذي يطلب رؤيتي؟
أماء فسألت عن السبب ليقول بتفكير:
- رأيتُك عدة مرات، لَم أحاول التحدث إليك أبدًا، لكنك لفتِ انتباهي، وقد ساقني فضولي إلى هنا.
- : حقًا؟ وكيف توقعتَ شخصيتي؟
- : اعتقدُ أنك شخص هادئ ولطيف.
- : هذا لطفٌ مِنك أنت.
- : إذن أيتها الآنسة ما عذرك لعدم حضورك المحاضرات الماضية؟
كتمتْ (رزان) ضحكتها، تفكر في عُذر بينما يملأها حماسٌ قررتْ كبته؛ فيبدو أنه هادئ ومتردد رغم ثباته، وإن تحمستْ الآن قد تزعجه أرادت إخباره عن أحلامها، لكنها خافت من مواجهة أن لُقياهم كان بسببها هي، فهي لَم تُزِل عينها عنه عندما رأته أول مرة، لكن بحُكم خيالها، اختلفتْ ملامح وجهه في حلمها اختلافًا طفيفًا، مؤثرًا على تفكيرها، مُنسيها أنه هو، وعندما سمعت اسم زميلها تراجعت، بسبب توترها من مقابلته هو وليس زميلها.
أما هو، فهو يزور أحلامها بين فترة وأخرى منذ لفتها لانتباهه، لكنه لن يخبرها بأمر الزيارات المقصودة.
تعليقات
إرسال تعليق