لآلئ الدُجى

 ارتدت معطفها المفضل كقطعة أخيرة قبل خروجها، لا تعرف أين تذهب، لكنها فقط قررت الخروج، أخذت مفاتيح المنزل، وأخذت هاتفها المغلق وذهبت.

تسير في الشوارع هائمة على وجهها، الوقت يقترب من منتصف الليل، ومعظم الأماكن التي تحب الذهاب إليها مغلقة، أو تستعد للإغلاق، لذا فهي تكمل سيرها، عثرت على منتزه صغير به عدة مقاعد، بلا تذاكر دخول أو أمن، فاختارت أحد المقاعد وقررتْ الجلوس على طرفه بهدوء.

لَم يسد الصمت أبدًا؛ فقد كانت تُخرِج تنهيداتٍ بين فترة وأخرى؛ هناك ما يشغل بالها، إلى أن قاطع تنهيداتها صوتٌ قادمٌ من الجهة الأخرى مِن المقعد يطلب منها أن يجلس، وهي وافقتْ بإيمائة بسيطة، فجلس بجوارها بصمت، لتكمل تنهيدها المتكرر، لكنها صمتت مع دخول رائحة السيجارة التي أشعلها هو إلى أنفها حتى سعلت، فأخرجها هو من فمه معتذرًا ثم أطفأها، رفعت رأسها للسماء المُزينة بالنجوم، لَم ترَ الكثير من النجوم بسبب الضوء الصادر من العمود فوقها، لكنها على الأقل تأملت ما رأت، إلى أن قال مَن بجوارها:

- لو اعتبرتي أننا لن نتقابل مجددًا، هل ستخرجي ما بداخلك؟

نظرت له وسألت في المقابل:

- ماذا عنك؟

هز كتفيه كإجابة على سؤالها، ثم أقرنها بأخرى من فمه:

- ربما.

أخرجت تنهيدة أخرى، ثم قالت بعدها:

- انا أكره كل شيء، لا شيء يسير بطبيعية معي.

- سخر: ظننتك لن تتكلمي.

- بتفكير: في الحقيقة، إنه عرضٌ مُغري، كما أننا لا نعرف شيئًا عن بعضنا، ولن نُفصح عن شيء كهذا.

صمت فأكملت:

- أفكر في العودة لبلدتي بعيدًا عن العمل، لكن ماذا قد أفعل هناك، أخبرني، لو أنك تملك كل ما في الدنيا، إلا شيئًا واحدًا: شخصٌ تأمن له قلبك، ماذا تفعل؟

ابتسم بحزن، لكنها لَم تر ابتسامته بسبب الظلام، قال:

- سأكون موجودًا هنا، انتظر مواساة الريح، والنجوم، والأشجار.

- ممازحة: مع سيجارة.

- : نعم، مع سيجارة.

- : تستمع بها؟

- : ليس دائما، لكنني مدمنٌ لها.

- : أوقفها مادمت تكرهها!

- : ليس سهلًا.

صمتت بضيق، لكن وجهها أضاء فرحًا مجددًا، لذا قامت من مكانها مسرعة وعادت بعد لحظات بمصاصتين لينظر لها بتساؤل، سلمتْ إحداها له، والأخرى فتحتها بينما قالت:

- يمكنك التسلّي بها بدلًا من السيجارة.

تحولتّ أنظاره المتسائلة إلى ساخرة قائلًا:

- لستُ طفلًا.

ضحكتْ قائلة:

- نعم أعلم، هيا افتحها، لقد أحضرتُ واحدة لي كي لا تُحرَج.

تمتم بسخط بينما يفتحها:

- غريبة الأطوال تلك التي اصتادتني.

لتكمل ضحكاتها هي، مرتْ الليلة هكذا، يتأملان السماء، يتحدثان عن أي شيء لا يخص حياتهم الخاصة، وقد حرصا على عدم سؤال الآخر عن اسمه، ولم يمضِ الكثير حتى افترقا، كلٌ عائدٌ لمنزله، بعد إخراج كَم ضيق هائل عن كاهلهما.

في اليوم التالي، أنهتْ نقاش الإعلان الجديد في اجتماع عملها، وخرجتْ لأحد المقاهي لإنعاش نفسها قبل العودة للمنزل وإكمال عملها هناك، طلبت مشروبها المفضل:"كابتشينو"، واختارت مكانًا مناسبًا، تنظم أفكارها بشأن باقي العمل.

 شعرت بوخز خفيف على كتفها الأيمن من الخلف لترفع رأسها، رأت وجه رجلٍ هادئ الملامح، مرهق التعابير، يضع الحيرة على وجهه، قال:

- اعتذر عن هذا السؤال الغريب، لكن ألستِ أنت من اشترت لي حلوى ليلة أمس؟

حلوى؟ من ذاك الذي يشترى حلوى لرجل في مثل سنه؟ لا، مهلًا، هي اشترت حلوى بالفعل، سألت بتعجب:

- رجل السجائر؟

كتم ضحكته على لقبه الذي تلقاه توًا، بينما يومئ مؤكدًا شكوكها، فدعته ليجلس معها وفعل، ثم طلبت له مشروبًا، وأصرتْ أن يكون على حسابها، كاعتذار منها على هذا اللقب، رغم أنه لم يعترض عليه.

وكالليلة الماضية، تحدثا عن أي شيء وكل شيء لا يخص حياتهم الخاصة، وقد استمتعا، ولم يمض الكثير حتى ودّعا بعضهما، وبفضل هذا اللقاء، استطاعت هي التماسك ليوم آخر، وعدم الخروج بضجر كليلة أمس، إلا أنها في المقابل كانت تشعر بالحماس لبدء يوم غد.

لكن، وكما يُقال، تسرِ الرياح بما لا تشتهيه السُفن، ولنكن أدق، لَم تسرِ رياح حياتها كما اشتهتها هي؛ فهي قصدت إنهاء عملها بسرعة، والذهاب لنفس مقهى يوم أمس، حتى يتسنى لها مقابلته في أقرب فرصة، كما أنها أطالت الجلوس، ولم يظهر، وهي تناوب بين التحديق في الزبائن او في الشارع عبر النافذة البعيدة عنها، إلى أن ذهبت للمنزل، والآن، هي تحمل فوق كتفيها ضجر يومين كاملين، مع إحباط سيطر عليها بسبب ما حدث، أخذت درسًا قويًا في عدم الاعتماد على الصدفة مجددًا، جعلها كذلك مترددة في الذهاب إلى مكان التقائهم من ليلة أول أمس، إلا أنها في النهاية خرجتْ من منزلها وأخذت جولة جديدة تحت إضائات الشارع الخافتة في الظلام.

توقفت عند نفس المقعد، لكنها أبت أن تقترب، خافت الاعتماد على ظهوره، خافت كسر خاطرها مجددًا، أبت حتى أن تنظر إليه؛ إنها متأكدة أنها إن رفعت رأسها ونظرت الآن حيث المقعد، سيَرسُم لها خيالها شخصًا يجلس هناك، وهذا الشخص ليس موجودًا، لكنها رفضت الرضوخ إلى نصائح عقلها الخائف ورفعت رأسها، ونظرت حيث المقعد، ورأت ما خافت؛ رأت مَن يجلس هناك، عند نفس الطرف الذي جلس فيه رجل السجائر، ويبدو أنه كان يشعل سيجارة بالفعل؛ فرائحتها تصلها رغم ابتعادها، ودخانها واضحٌ رغم خفوت الضوء، لَم تتمالك نفسها أكثر، قررت مواجهة عقلها وقلبها وخيالها معًا في آنٍ واحد، واقتربت منه لتتأكد من شكوكها.

وخزته بإصبعها بخفة كما فعل يوم أمس، وهو رفع رأسه ناحيتها لتبتسم مع ابتسامته، ثم استدارت للجلوس بجواره بينما هو أطفأ سيجارته، ثم حل الصمت. قالت:

- أعرف أننا اتفقنا على عدم السؤال عن أي شيء شخصيّ، لكنني لَم أعد أتحمل.

ناظرها بتساؤل فأكملت:

- : أريد أن أعرف كل شيء، كما أريد أن احكي لك كل شيء.

- : رغم أنك مَن وضع هذا القانون.

- بضيق: أنت مَن ظنّ أننا لن نتقابل مجددًا!

ضحك، لكنها اسكتته بقولها:

- ليسأل كل منّا سؤالًا، وكل منّا سيجيب عليه.

وافق لتبدأ هي:

- أولًا، ما اسمك؟

- : هادي، وأنتِ؟

- : بالتأكيد، أنتَ أكثر شخص هادئ رأيته، أنتَ هدوء الليل ولطفه، اسمي سَنا.

- : وأنتِ أكثر إنسان مضيئ رأيته في حياتي، وأول مَن أضاء لي ظلمة الليل ووحَشته، بل وأخرجني منها، أنتِ كنجم الليل الساطع الذي يواسيني يوميًا.

- سخرت والخجل يجتاحها: هل قال لك أحد أن لسانك يقطر عسلًا؟ أتحب التغزل؟

- : ألم تقولي أنني أكثر شخص هادئ قابلته؟

- : مهلا أأنت حقا لا تملك أصدقاء؟

 أماء بصمت فقالت:

- إذن، أيها السيد الهادئ من الآن فصاعدًا أنا فقط من سيستمع لك، لن اعتمد على صدفة التقائك من الآن فصاعدًا، فموعدنا محدد: عند هذا المقعد عند منتصف الليل.

- : ماذا وإن التقينا صباحًا؟

- : افعل ما تشاء، أنا موجودة هنا كما وعدتك.

- : حقا؟ وكيف سأتأكد؟

- : تريد طريقة للتواصل معي؟

- : لمَ لا.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرط التفكير

الكويكب الذي غير تاريخ الأرض

تذكرني دائمًا